السبت، 15 يناير 2011

في كلابريا


في كلابريا




جميلة الرقيقتونس
المرتبة الثانية في جائزة معبر المضيق في دورتها الثالثة، فئة العربية


ورقة أولى
عزيزتي هناء
   اطردي عنك الهواجس، اطمئنّي لا أحبّ أن تنشغلي بي كثيرا حتّى لا تنزعج الصّغيرة في بطنك ...فكّري في طفلتنا وفي لقائنا القريب ...فقد حرقت ووصلت إلى الضّفّة الأخرى في سلام ...تصلك قريبا حوّالة اصرفيها، ألف يورو أوّل مبلغ معتبر أحصل عليه بعد شهور من العمل في كلابريا...ألف يورو...ما يعادل ألفا وثمانمائة دينار تونسية...كافية لتفي بحاجيّاتك أنت والصّغيرة...نفقاتي هنا قليلة، أستطيع توفير ما احتاجه من بعض الأعمال التي أقوم بها لبعض الفلاّحين جيران ميسيو صافيريو بعد إنهاء عملي عنده...لا أحتاج الكثير، ثمن علبة تبغ...ليتني أستطيع التّخلّي عن هده العادة السّيّئة ـ كما تقولين ـ والّتي صارت تكلّفني سبعة يورو يوميّا هنا...سأشتري بعض الملابس الخاصة بالعمل في حقول البرتقال وقفّازات جديدة، فالّتي أعطا نيها مسيو صافريو مهترئة، لن تحمي يديّ من الخدوش والتّيبّس...وأنا لا أحبّ أن أخدش يديك الطّريّتين...اشتقت إليك كثيرا...
أتدثّر بك في اللّيل ...ألامس يديك الطّريّتين ...أخبّئ وجهي في حضنك...أسمع أنفاسك الحارّة...أشمّ رائحتك...يخدّرني عطرك ...تتسرّب إليّ حرارتك...أخبّئها بين أضلعي...وأنام...
                                                   حتّى نلتقي...
                                                        زوجك المخلص أمين

ورقة ثانية
   خلال الشّهر الأوّل لم أجد عملا ...ولم أشتغل كذلك في الأشهر الموالية...فقد هجم على حقول الزّيتون أصحاب عقود رسميّة و مهاجرون حارقون ممّن سبقوني وحذقوا قواعد اللّعبة...
   عندما وصلت كان الموسم في أيّامه الأخيرة يشرف على النّهاية...كنت كلّ يوم أذهب إلى الحقول...أنتظر أن يطرد أحدهم أو يرهق...فآخذ مكانه...مسيو صافريو وعدني بأن يشغّلني في الموسم القادم...موسم جني البرتقال...
   رويت له كيف حرقت وتركت زوجتي الصّغيرة وفي بطنها ابنتي الصّغيرة....التي ستطلع إلى الدّنيا خلال شهرين وستبحث عن وجهي بين وجوه كثيرة...ولن تجدني...
   قصصت عليه أيضا حكاية الدّائنين الّذين سيطرقون باب بيتي هناك كل يوم يسألون زوجتي عن أخباري...يطالبونها بأموال استلفتها أنا ثمنا لرحلة بحريّة مرّت بأمان، لكنّ زوجتي لا تعلم...قلت لها لا تقلقي عليّ، سأسافر إلى إيطاليا، حصلت على عقد عمل، لا تُعلمي أحدا حتى أصل إلى هناك وأرسل لك عنواني.
   ستحتار زوجتي في أمر تسديد الدّيون...لم أترك لها شيئا ثمينا، جهاز تلفاز ولاقطا وصحنا وغرفة في بيت أهلي، قلت لها:" تفرجي على القنوات الايطاليّة، اللّغة سهلة ستحذقينها بسرعة في انتظار أن نلتقي..." وأوصيت أمّي بها خيرا 
   ستتردّد...أتبيع التّلفاز أم الخاتم؟ أم السّلسلة والإسورتين؟ هداياي في مناسبات الخطوبة وعقد القران والزّواج...لتسدّد ديوني...لكنّ أمّها الّتي نبّهتها إلى فشل مثل هذا الزّواج من قبل وسعت أكثر من مرّة لتمنع حصوله، ستنبّهها إلى أنّ الرّحلة غير مضمونة...ستقول لها: "زوجك لم يسافر في رحلة عاديّة...قلبي يخبرني بأنّه أخفى عنك سرّا رهيبا، أفيقي  ولا تضيّعي العمر في الأوهام...فقد لا ينجو  مركبه من عاصفة بحريّة مفاجئة...وقد يقبض عليه الطّليان ليلقى به في صحراء ليبيا، ولن يعرف طريقا إلى العودة...ولنفرض أنه نجا...فإنّه لن يجد عملا في بلاد الطليان...احفظي ذهبك لأيّام قادمة أحلك من هذه..."
   قلت لمسيو صافيريو: "أنا مستعدّ للعمل بالأجر الذي تحدّده...أريد أن أرسل حوّالة إلى زوجتي قبل موعد الولادة لتشتري لابنتي أولى فساتينها حتّى إذا ما بحثت عنّي ـ حين تجئ إلى الدّنياـ استطاعت زوجتي أن تجيبها...
   تعاطف معي مسيو صافيرو...عجب لإتقاني اللّغة الإيطاليّة، وأذهله ما حصلت عليه من شهادات...وبدا كريما معي حين حدّد الأجر... أربعة  يورو مقابل ساعة عمل يضاعفها إذا عملت يوم الأحد....فإذا اشتغلت اثنتي عشرة ساعة يوميّا طيلة ثلاثين يوما بلا انقطاع استطعت أن أرسل ألف يورو ـ كل شهر ـ إلى هناء، وما زاد عنها لي، أقتّره على نفسي، ستفرح هناء، ستتأكّد من نجاتي...وستسدّد نسبة من الدّيون فيطمئنّ الدّائنون، ولن يطرقوا بابها...إلى حين ...ولن تبيع هداياي...وستلغي كل توقّعات أمّها، وستشغل وقتها بالعناية بالصّغيرة والاستعداد لتلحق بي...كما وعدتها...
   أنا هنا لن أحتاج إلاّ القليل من المال...أنام في مبنى قديم مع آخرين نسدّ فجواته بالكرتون...لكنّنا لا ندفع إيجارا...آكل مرّة في اليوم...وإلى حدّ الآن استطعت تحمّل الأنواء والرّياح و الجوع...فقدت بعض الكيلوغرامات جعلتني أقدر على الحركة أكثر من ذي قبل، ولم توهن جسمي...


ورقة ثالثة
هذا المساء سأخوض أولى مغامراتي هنا...سأخرج إلى المدينة ...إلى حد الآن اكتفيت بالتّطلع إلى قرميد بيوتها الّتي تتراءى لي متناهية في الصّغر من بعيد بعدما أزور المدينة هذا المساء، سأكتب رسالة إلى هناء أحدّثها فيها عن هذه البيوت الجميلة  المطلّة على البحر، فقد أستأجر شقّة بإحداها ذات شرفة أجلس فيها ساعات خلال اللّيل الطّويل في كلابريا أتطلّع إلى البحر، أتوسّل إليه ـ وأنا أتذكّر ليالينا الجميلةـ فلا يخيّب أملي...ويأتيني بهناء في كامل زينتها ...فأحضنها...وأنام...
                                                    ـ حتى نلتقي                         
   كانوا أربعة، اتّفقوا على الاحتفال بحصول أمين على عقد عمل...في المدينة واّتفقوا على العودة قبل العاشرة...حتى لا تفاجئهم دوريّة أمنية تقلب أحلامهم أوهاما ...أشعلوا حطبا كثيرا، ووضعوا نصف برميل مملوء ماء فوق أحجار ثلاثة ـ كما كانت تفعل الجدّات في صباهم البعيد في تلك القرى النائية ـ .اغتسلوا ما أمكن لهم وحلقوا ذقونهم ...ولبسوا بدلا كانوا يحافظون عليها ملفوفة في أكياس نيلون معلّقة في مسامير في السّقف بعيدة عن الجرذان...والأقذار...لمثل هذه الأمسية...
   كان الظّلام قد بدأ ينتشر في سماء المدينة حين خرج عليهم رجال ثلاثة ـ وهم في طريق العودة ـ وكانوا سكارى.شتمهم الرّجال بأقذع الشّتائم، لم يردّوا عليهم، أولوهم ظهورهم، أشهر الرّجال أسلحتهم...حين سمعوا الطّلقات النّاريّة في الهواء ضحكوا وتمايلوا من الضّحك...ومن السّكر...ومن الدّهشة.لكنّ "أمين" تعثّر، وسقط، وقبل أن يفهموا ما حصل تفرقوا مفلتين...الرّجال الثلاثة، والشّبّان الثّلاثة...
   زار مسيو صافيريو "أمين" في المستشفى، رآه عبر حاجز بلّوريّ...قيل له هناك إنّه في غيبوبة قد لا يصحو منها أبدا...فالرّصاصة استقرّت في الرّأس...
كان أمين قد استعدّ للانتقال إلى ضيعة مسيو صافريو الّذي أبرم معه عقد عمل، وأحضر له أوراقا رسميّة، واّتفق معه أن يدفع له  ستة مائة يورو بدل الألف، على أن يؤمّن له الطّعام والإقامة في كوخ صغير به ما يلزمه  للنوم والاغتسال وقضاء الحاجة...طلب إليه أن يحرس الضيعة ووعده بيوروات إضافية إذا هو أنجز أعمالا أخرى قد تطلبها منه مدام صافيريو...قبل أمين العرض السّخيّ...وكان ذلك المساء...آخر مساء يقضيه في المبنى قبل أن يغادر إلى الضّيعة وقد نقل فعلا إليها  أشياءه القليلة  صباح ذلك اليوم...بضعة أكياس وحقيبة جلديّة صغيرة وجد بها مسيو صافيريو صورا وأوراقا مكتوبة بالعربيّة قلّبها بين يديه كثيرا...لم يشأ أن يطّلع عليها أحدا...فلطالما حدّثه أمين عن هناء...فكّر أنّ هذه الأوراق في كلّ الحالات تعنيها وحدها.جمعها في ظرف كبير وأضاف بالإيطالية...
ورقة رابعة 
    آسف...
   أمين تعرّض إلى حادث.هو الآن بالمستشفى.إصابته خطيرة.الأطبّاء قالوا إنّه من الصّعب أن يصحو من غيبوبته.الحادثة سُجّلت ضد مجهول.
حتى يفيق أمين...  هذه الأوراق حتما تخصّك وحدك 
                          
   أرسل الظّرف وحوّالة  بمائتي يورو ـ على وجه المساعدة ـ على العنوان الذي سلّمه له أمين قبل يومين من الحادثة...        
        تمّت في ديسمبر  2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق