الخميس، 13 يناير 2011


ياسمينة والفجر




ألخندرو لييو بارثيلو. بتيرنا، إسبانيا
المرتبة الثالثة في جائزة معبر المضيق في دورتها الثالثة، فئة الإسبانية
ترجمةخواني عبد الودود





كل شيء مني مظلم
أغادر طبيعتي 
وافتح شرسا الأبواب 
باحثا عن شيء، هو الآن مفقود في كل مكان
أنا الجنس البشري في أي لحظة
من الوجود
ومضة من نور يخمد
أنظروا إلي جيدا:
مجرد الغناء فقط يجعل مني إنسانا جديدا 
أنصتوا إلي :
كما  حبي، إلهي  سيجعل المساء خالدا .
ميغيل بييرت. تعليمات للفجر.
لم يبزغ الفجر بعد، عندما اقتربت ياسمينة من المنحوتة، إنها متعبة ترفع تسريحة شعرها للأعلى، قضت ساعات كثيرة في تنظيف الساحات والأروقة تنزع الغبار عن الرفوف وعن الكتب القديمة، تسقي النباتات وتكنس الأرضيات، يومها ينتهي وهي حقا مرهقة . ولكنها لا تستطيع أن تغادر قبل أن تتأمل منحوتتها.                                 
 تتقدم خلسة وهي تحمل المكنسة في يدها.ضوء الغرفة الخافت يضيء جلدها الداكن الذي لازال يلمع من جراء جهد عمل الليل. خطواتها ترن هادئة، متوافقة مع المنصة الطافية في سكون الغرفة. فتتوقف متأملة من حولها تمد ذراعيها و تسند عصا المكنسة إلى العمود، تمسح كفيها بالبزة وتنصرف نحو تلك القطعة التي كثيرا ما أبهرتها، تفتح جفنيها وتتأمل النقوش التي تشق ظهر المنحوتة  واحدا واحدا ودقة الخطوط والدوائر، القوة التي يؤثر بها الفنان في المعدن في مرحلة ما من عمله، والدقة التي يعبر عنها في مراحل أخرى، سطح المنحوتة كان باردا وبالكاد كانت  تلمع لكن بصمة الفنان تعلوها.                                          
تتبع ياسمينة  بنظراتها  تلك الخطوط الهندسية باحثة لها عن معنى، عن عنوان، واعية أن الجمال الكلي يخضع لدقة كل شق، لكل طرقة بالمطرقة، تتذكر الفن والتقنية القديمة التي تعلمتها ببراعة في الماضي، ترفع ببطء يدها،  فتكاد تلامس الظبي الصغير، تتأمله في النور، لتوهج عيناها، وتتجهم نظراتها، تتراجع بركن مظلم وهناك تبكي، تذرف في صمت تلك الدموع عديمة النفع، لا أحد يراها، دموع لا تصلح لشيء، ولكن رغم ذلك تنهمر، تبكي بصمت في الظلمة  وفي الهدوء الذي يتقدم بزوغ الفجر، هي على وشك إنهاء يوم عملها أمام  منحوتة ظبي مدينة الزهراء.                                   
ياسمينة محاصرة بتلك الخطوط المتاهية، هي محاصرة وفي نفس الوقت تائهة، معجبة ومشمئزة، لذلك تبكي، تأمل الظبي الصغير ينشطها يجعلها تشعر بقربها من أصولها، من عائلتها، من حياتها السالفة، لترى ساحة منزلها واللعب أمام النافورة، صرامة أمها التكلفية وضحكات إخوتها، ولأبيها يقيم العدل في القصبة، و عند  حلول المساء هي وأبوها، الاثنان مع بعض يصنعان قوالبا ووجوها من الطين بالورشة، يدان خشنتان وكبيرتان  تقودان بليونة يديها الناعمتين وغير الواثقتين، ترى سنوات دراستها، جهدها وعزيمتها، حبها للفن القديم الذي يزخر به شعبها، ساعات لا نهاية لها في مجال  تعلم تقنيات النحت، تشدد معلميها وإخفاقاتها، تتذكر بارتياح إنجازها العظيم الأول. واعتراف معلميها بطاقة فنها، وبالابواب التي كانت  ستفتح لها المستقبل المشرق.                                         
كل ذلك يمر بذاكرتها متأملة في صمت ملامح منحوتة الظبي الصغير، كل ذلك و أكثر لأن  الظبي الصغير هو نفسه ينعشها مظهرا لها ما كانت وما أصبحت عليه، يمنعها من نسيان ما أرعبها كثيرا، و ما يدفعها مجددا نحو الهاوية، بداية الحرب والريبة في نتيجتها، قدوم الجنود إلى منزلهم ومقتل والدها، الذي كان ينتظرهم هادئا بالساحة،  ليعم بعدها يأس و صراخ،  وصيحات إخوتها الاحتضارية، وصراخ أمها، ليتبعه السكون، رجال مبللون بالعرق يعلونها ليغتصبونها، الواحد تلو الآخر، الواحد تلو الآخر، يمررون ألسنتهم المبتلة على خديها، و عندما تظن أن الأمر قد انتهى، يسكبون السائل الحمضي على جسدها  فتتألم، ألم لا شكل له، جامح  يبرمها، حاضن لها، تشعر أن لحمها يذوب في التراب تصرخ إلى أن تبح، على أن ينتهوا منها، على أن يختفوا، تطفو روحها  حتى القنوط الكلي، لا فرق عندها بين السماء والأرض، بين النور والظلمات، بين الوجود والعدم، مضروبة بلا رأفة يتلبسها  ألم خافق ومجسي، كل ما يطلبه رسول أعماقها، هو الإمساك بها وذرها في الفراغ .                                                                    
 تقف ياسمينة  أمام منحوتة الغزال الصغير، تأخذ بعض الوقت لتتمالك من جديد، إنه الثمن الذي عليها أن تدفعه، وهكذا هي راضية، و عندما تكف دموعها عن تبليل العلامات التي هي على خديها الميتين، تبتعد ساحبة المكنسة، رأسها مطأطأ ونظرتها تائهة، تغير ملابسها في غرفة بلا مرآة، يدان خشنتان مشوهتان بالسائل الحمضي تلامسان بشرتها الجافة والمهملة، تحمل حقيبتها الخشنة ومعطفها الطويل القاتم وتخرج، تخرج عند الفجر بهدوء من خلال باب ضيق وصدئ  دون أن ينتبه أحد إلى مغادرتها.     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق