الأربعاء، 12 يناير 2011

للبحر ذراعان


للبحر ذراعان


ياسر سعيد الششتاوي. مصر
المرتبة الثالثة في جائزة معبر المضيق في دورتها الثالثة، فئة العربية


لا تنزعج الصّغيرة في بطنك ...فكّري في طفلتنا وفي لقائنا القريب ...فقد حرقت ووصلت إلى الضّفّة الأخرى في سلام ...تصلك قريبا حوّالة اصرفيها، ألف يورو أوّل مبلغ معتبر أحصل عليه بعد شهور من العمل في كلابريا...ألف يورو...ما يعادل ألفا وثمانمائة دينار تونسية...كافية لتفي بحاجيّاتك أنت والصّغيرة...نفقاتي هنا قليلة، أستطيع توفير ما احتاجه من بعض الأعمال التي أقوم بها لبعض الفلاّحين جيران ميسيو صافيريو بعد إنهاء عملي عنده...لا أحتاج الكثير، ثمن علبة تبغ...ليتني أستطيع التّخلّي عن هده العادة السّيّئة ـ كما تقولين ـ والّتي صارت تكلّفني سبعة يورو يوميّا هنا...سأشتري بعض الملابس الخاصة بالعمل في حقول البرتقال وقفّازات جديدة، فالّتي أعطا نيها مسيو صافريو مهترئة، لن تحمي يديّ من الخدوش والتّيبّس...وأنا لا أحبّ أن أخدش يديك الطّريّتين...اشتقت إليك كثيرا...
أتدثّر بك في اللّيل ...ألامس يديك الطّريّتين ...أخبّئ وجهي في حضنك...أسمع أنفاسك الحارّة...أشمّ رائحتك...يخدّرني عطرك ...تتسرّب إليّ حرارتك...أخبّئها بين أضلعي...وأنام...
                                                   حتّى نلتقي...
                                                        زوجك المخلص أمين

ورقة ثانية
   خلال الشّهر الأوّل لم أجد عملا ...ولم أشتغل كذلك في الأشهر الموالية...فقد هجم على حقول الزّيتون أصحاب عقود رسميّة و مهاجرون حارقون ممّن سبقوني وحذقوا قواعد اللّعبة...
   عندما وصلت كان الموسم في أيّامه الأخيرة يشرف على النّهاية...كنت كلّ يوم أذهب إلى الحقول...أنتظر أن يطرد أحدهم أو يرهق...فآخذ مكانه...مسيو صافريو وعدني بأن يشغّلني في الموسم القادم...موسم جني البرتقال...
   رويت له كيف حرقت وتركت زوجتي الصّغيرة وفي بطنها ابنتي الصّغيرة....التي ستطلع إلى الدّنيا خلال شهرين وستبحث عن وجهي بين وجوه كثيرة...ولن تجدني...
   قصصت عليه أيضا حكاية الدّائنين الّذين سيطرقون باب بيتي هناك كل يوم يسألون زوجتي عن أخباري...يطالبونها بأموال استلفتها أنا ثمنا لرحلة بحريّة مرّت بأمان، لكنّ زوجتي لا تعلم...قلت لها لا تقلقي عليّ، سأسافر إلى إيطاليا، حصلت على عقد عمل، لا تُعلمي أحدا حتى أصل إلى هناك وأرسل لك عنواني.
   ستحتار زوجتي في أمر تسديد الدّيون...لم أترك لها شيئا ثمينا، جهاز تلفاز ولاقطا وصحنا وغرفة في بيت أهلي، قلت لها:" تفرجي على القنوات الايطاليّة، اللّغة سهلة ستحذقينها بسرعة في انتظار أن نلتقي..." وأوصيت أمّي بها خيرا 
   ستتردّد...أتبيع التّلفاز أم الخاتم؟ أم السّلسلة والإسورتين؟ هداياي في مناسبات الخطوبة وعقد القران والزّواج...لتسدّد ديوني...لكنّ أمّها الّتي نبّهتها إلى فشل مثل هذا الزّواج من قبل وسعت أكثر من مرّة لتمنع حصوله، ستنبّهها إلى أنّ الرّحلة غير مضمونة...ستقول لها: "زوجك لم يسافر في رحلة عاديّة...قلبي يخبرني بأنّه أخفى عنك سرّا رهيبا، أفيقي  ولا تضيّعي العمر في الأوهام...فقد لا ينجو  مركبه من عاصفة بحريّة مفاجئة...وقد يقبض عليه الطّليان ليلقى به في صحراء ليبيا، ولن يعرف طريقا إلى العودة...ولنفرض أنه نجا...فإنّه لن يجد عملا في بلاد الطليان...احفظي ذهبك لأيّام قادمة أحلك من هذه..."
   قلت لمسيو صافيريو: "أنا مستعدّ للعمل بالأجر الذي تحدّده...أريد أن أرسل حوّالة إلى زوجتي قبل موعد الولادة لتشتري لابنتي أولى فساتينها حتّى إذا ما بحثت عنّي ـ حين تجئ إلى الدّنياـ استطاعت زوجتي أن تجيبها...
   تعاطف معي مسيو صافيرو...عجب لإتقاني اللّغة الإيطاليّة، وأذهله ما حصلت عليه من شهادات...وبدا كريما معي حين حدّد الأجر... أربعة  يورو مقابل ساعة عمل يضاعفها إذا عملت يوم الأحد....فإذا اشتغلت اثنتي عشرة ساعة يوميّا طيلة ثلاثين يوما بلا انقطاع استطعت أن أرسل ألف يورو ـ كل شهر ـ إلى هناء، وما زاد عنها لي، أقتّره على نفسي، ستفرح هناء، ستتأكّد من نجاتي...وستسدّد نسبة من الدّيون فيطمئنّ الدّائنون، ولن يطرقوا بابها...إلى حين ...ولن تبيع هداياي...وستلغي كل توقّعات أمّها، وستشغل وقتها بالعناية بالصّغيرة والاستعداد لتلحق بي...كما وعدتها...
   أنا هنا لن أحتاج إلاّ القليل من المال...أنام في مبنى قديم مع آخرين نسدّ فجواته بالكرتون...لكنّنا لا ندفع إيجارا...آكل مرّة في اليوم...وإلى حدّ الآن استطعت تحمّل الأنواء والرّياح و الجوع...فقدت بعض الكيلوغرامات جعلتني أقدر على الحركة أكثر من ذي قبل، ولم توهن جسمي...


ورقة ثالثة
هذا المساء سأخوض أولى مغامراتي هنا...سأخرج إلى المدينة ...إلى حد الآن اكتفيت بالتّطلع إلى قرميد بيوتها الّتي تتراءى لي متناهية في الصّغر من بعيد بعدما أزور المدينة هذا المساء، سأكتب رسالة إلى هناء أحدّثها فيها عن هذه البيوت الجميلة  المطلّة على البحر، فقد أستأجر شقّة بإحداها ذات شرفة أجلس فيها ساعات خلال اللّيل الطّويل في كلابريا أتطلّع إلى البحر، أتوسّل إليه ـ وأنا أتذكّر ليالينا الجميلةـ فلا يخيّب أملي...ويأتيني بهناء في كامل زينتها ...فأحضنها...وأنام...
                                                    ـ حتى نلتقي                         
   كانوا أربعة، اتّفقوا على الاحتفال بحصول أمين على عقد عمل...في المدينة واّتفقوا على العودة قبل العاشرة...حتى لا تفاجئهم دوريّة أمنية تقلب أحلامهم أوهاما ...أشعلوا حطبا كثيرا، ووضعوا نصف برميل مملوء ماء فوق أحجار ثلاثة ـ كما كانت تفعل الجدّات في صباهم البعيد في تلك القرى النائية ـ .اغتسلوا ما أمكن لهم وحلقوا ذقونهم ...ولبسوا بدلا كانوا يحافظون عليها ملفوفة في أكياس نيلون معلّقة في مسامير في السّقف بعيدة عن الجرذان...والأقذار...لمثل هذه الأمسية...
   كان الظّلام قد بدأ ينتشر في سماء المدينة حين خرج عليهم رجال ثلاثة ـ وهم في طريق العودة ـ وكانوا سكارى.شتمهم الرّجال بأقذع الشّتائم، لم يردّوا عليهم، أولوهم ظهورهم، أشهر الرّجال أسلحتهم...حين سمعوا الطّلقات النّاريّة في الهواء ضحكوا وتمايلوا من الضّحك...ومن السّكر...ومن الدّهشة.لكنّ "أمين" تعثّر، وسقط، وقبل أن يفهموا ما حصل تفرقوا مفلتين...الرّجال الثلاثة، والشّبّان الثّلاثة...
   زار مسيو صافيريو "أمين" في المستشفى، رآه عبر حاجز بلّوريّ...قيل له هناك إنّه في غيبوبة قد لا يصحو منها أبدا...فالرّصاصة استقرّت في الرّأس...
كان أمين قد استعدّ للانتقال إلى ضيعة مسيو صافريو الّذي أبرم معه عقد عمل، وأحضر له أوراقا رسميّة، واّتفق معه أن يدفع له  ستة مائة يورو بدل الألف، على أن يؤمّن له الطّعام والإقامة في كوخ صغير به ما يلزمه  للنوم والاغتسال وقضاء الحاجة...طلب إليه أن يحرس الضيعة ووعده بيوروات إضافية إذا هو أنجز أعمالا أخرى قد تطلبها منه مدام صافيريو...قبل أمين العرض السّخيّ...وكان ذلك المساء...آخر مساء يقضيه في المبنى قبل أن يغادر إلى الضّيعة وقد نقل فعلا إليها  أشياءه القليلة  صباح ذلك اليوم...بضعة أكياس وحقيبة جلديّة صغيرة وجد بها مسيو صافيريو صورا وأوراقا مكتوبة بالعربيّة قلّبها بين يديه كثيرا...لم يشأ أن يطّلع عليها أحدا...فلطالما حدّثه أمين عن هناء...فكّر أنّ هذه الأوراق في كلّ الحالات تعنيها وحدها.جمعها في ظرف كبير وأضاف بالإيطالية...
ورقة رابعة 
    آسف...
   أمين تعرّض إلى حادث.هو الآن بالمستشفى.إصابته خطيرة.الأطبّاء قالوا إنّه من الصّعب أن يصحو من غيبوبته.الحادثة سُجّلت ضد مجهول.
حتى يفيق أمين...  هذه الأوراق حتما تخصّك وحدك 
                          
   أرسل الظّرف وحوّالة  بمائتي يورو ـ على وجه المساعدة ـ على العنوان الذي سلّمه له أمين قبل يومين من الحادثة...        
        تمّت في ديسمبر  2009
ياسمينة والفجر
كل شيء مني مظلم
أغادر طبيعتي 
وافتح شرسا الأبواب 
باحثا عن شيء، هو الآن مفقود في كل مكان
أنا الجنس البشري في أي لحظة
من الوجود
ومضة من نور يخمد
أنظروا إلي جيدا:
مجرد الغناء فقط يجعل مني إنسانا جديدا 
أنصتوا إلي :
كما  حبي، إلهي  سيجعل المساء خالدا .
ميغيل بييرت. تعليمات للفجر.
لم يبزغ الفجر بعد، عندما اقتربت ياسمينة من المنحوتة، إنها متعبة ترفع تسريحة شعرها للأعلى، قضت ساعات كثيرة في تنظيف الساحات والأروقة تنزع الغبار عن الرفوف وعن الكتب القديمة، تسقي النباتات وتكنس الأرضيات، يومها ينتهي وهي حقا مرهقة . ولكنها لا تستطيع أن تغادر قبل أن تتأمل منحوتتها.                                 
 تتقدم خلسة وهي تحمل المكنسة في يدها.ضوء الغرفة الخافت يضيء جلدها الداكن الذي لازال يلمع من جراء جهد عمل الليل. خطواتها ترن هادئة، متوافقة مع المنصة الطافية في سكون الغرفة. فتتوقف متأملة من حولها تمد ذراعيها و تسند عصا المكنسة إلى العمود، تمسح كفيها بالبزة وتنصرف نحو تلك القطعة التي كثيرا ما أبهرتها، تفتح جفنيها وتتأمل النقوش التي تشق ظهر المنحوتة  واحدا واحدا ودقة الخطوط والدوائر، القوة التي يؤثر بها الفنان في المعدن في مرحلة ما من عمله، والدقة التي يعبر عنها في مراحل أخرى، سطح المنحوتة كان باردا وبالكاد كانت  تلمع لكن بصمة الفنان تعلوها.                                          
تتبع ياسمينة  بنظراتها  تلك الخطوط الهندسية باحثة لها عن معنى، عن عنوان، واعية أن الجمال الكلي يخضع لدقة كل شق، لكل طرقة بالمطرقة، تتذكر الفن والتقنية القديمة التي تعلمتها ببراعة في الماضي، ترفع ببطء يدها،  فتكاد تلامس الظبي الصغير، تتأمله في النور، لتوهج عيناها، وتتجهم نظراتها، تتراجع بركن مظلم وهناك تبكي، تذرف في صمت تلك الدموع عديمة النفع، لا أحد يراها، دموع لا تصلح لشيء، ولكن رغم ذلك تنهمر، تبكي بصمت في الظلمة  وفي الهدوء الذي يتقدم بزوغ الفجر، هي على وشك إنهاء يوم عملها أمام  منحوتة ظبي مدينة الزهراء.                                   
ياسمينة محاصرة بتلك الخطوط المتاهية، هي محاصرة وفي نفس الوقت تائهة، معجبة ومشمئزة، لذلك تبكي، تأمل الظبي الصغير ينشطها يجعلها تشعر بقربها من أصولها، من عائلتها، من حياتها السالفة، لترى ساحة منزلها واللعب أمام النافورة، صرامة أمها التكلفية وضحكات إخوتها، ولأبيها يقيم العدل في القصبة، و عند  حلول المساء هي وأبوها، الاثنان مع بعض يصنعان قوالبا ووجوها من الطين بالورشة، يدان خشنتان وكبيرتان  تقودان بليونة يديها الناعمتين وغير الواثقتين، ترى سنوات دراستها، جهدها وعزيمتها، حبها للفن القديم الذي يزخر به شعبها، ساعات لا نهاية لها في مجال  تعلم تقنيات النحت، تشدد معلميها وإخفاقاتها، تتذكر بارتياح إنجازها العظيم الأول. واعتراف معلميها بطاقة فنها، وبالابواب التي كانت  ستفتح لها المستقبل المشرق.                                         
كل ذلك يمر بذاكرتها متأملة في صمت ملامح منحوتة الظبي الصغير، كل ذلك و أكثر لأن  الظبي الصغير هو نفسه ينعشها مظهرا لها ما كانت وما أصبحت عليه، يمنعها من نسيان ما أرعبها كثيرا، و ما يدفعها مجددا نحو الهاوية، بداية الحرب والريبة في نتيجتها، قدوم الجنود إلى منزلهم ومقتل والدها، الذي كان ينتظرهم هادئا بالساحة،  ليعم بعدها يأس و صراخ،  وصيحات إخوتها الاحتضارية، وصراخ أمها، ليتبعه السكون، رجال مبللون بالعرق يعلونها ليغتصبونها، الواحد تلو الآخر، الواحد تلو الآخر، يمررون ألسنتهم المبتلة على خديها، و عندما تظن أن الأمر قد انتهى، يسكبون السائل الحمضي على جسدها  فتتألم، ألم لا شكل له، جامح  يبرمها، حاضن لها، تشعر أن لحمها يذوب في التراب تصرخ إلى أن تبح، على أن ينتهوا منها، على أن يختفوا، تطفو روحها  حتى القنوط الكلي، لا فرق عندها بين السماء والأرض، بين النور والظلمات، بين الوجود والعدم، مضروبة بلا رأفة يتلبسها  ألم خافق ومجسي، كل ما يطلبه رسول أعماقها، هو الإمساك بها وذرها في الفراغ .                                                                    
 تقف ياسمينة  أمام منحوتة الغزال الصغير، تأخذ بعض الوقت لتتمالك من جديد، إنه الثمن الذي عليها أن تدفعه، وهكذا هي راضية، و عندما تكف دموعها عن تبليل العلامات التي هي على خديها الميتين، تبتعد ساحبة المكنسة، رأسها مطأطأ ونظرتها تائهة، تغير ملابسها في غرفة بلا مرآة، يدان خشنتان مشوهتان بالسائل الحمضي تلامسان بشرتها الجافة والمهملة، تحمل حقيبتها الخشنة ومعطفها الطويل القاتم وتخرج، تخرج عند الفجر بهدوء من خلال باب ضيق وصدئ  دون أن ينتبه أحد إلى مغادرتها.     
    للبحر ذراعان

لم يداعب خيالي في يوم من الأيام ما وصلتُ إليه من تدفق النجاح والغنى في هذه البلاد، رغم أن من أهم محركات حياتي الطموح، ولكن كثيراً ما تولد الصعوبات التي تقتل الطموح في حياة الإنسان أو العكس، لم أكن أنا من هؤلاء الذين جنى عليهم طموحهم، بل لعب الحظ دوراً كبيراً في حماية طموحي، فلقد صعدتُ إلى قمة ما كنتُ أحلم به، ولكنني لم أتوقف عن مصاحبة الأحلام، ولن أتوقف إلا عندما يأخذني الموت من يدها .
 هل يا ترى لو كنتُ بقيتُ في مصر ماذا كنتُ سأصبح ؟؟
بالتأكيد لم أكن لأحقق واحداً من مائة مما حققته هنا، لا شك أنني أحب هذه البلاد بقدر ما أعطتني، وما أعطتني ليس بالقليل، أنها بلاد النعمة والجمال، مع أن مصر تمتلك الكثير من الخيرات، لكنها تمتلك أيضاً تفاقم في سوء الإدارة، وفساداً يسعى كالأخطبوط، كلما تُقطع له ذراع ينبت ذراع آخر .
ها أنا أجيئك يا أمّ الدنيا بعد مشوار طويل، يا ترى كيف حالك يا سنية ؟ لابد أنها قد نسيتني، ونسيت ما تعاهدنا عليه .
يا ترى ما حالك يا أبي ؟ وما حال إخوتي ؟
كان أبي يحلم أن يكون لديه فدان أرض واحد، والآن أصبح من أكابر قريته، بعد أن كان يعمل أجيراً، صار لديه من الطين ما يقارب مائة فدان، اشتراها مما كنتُ أرسله له من مال، فلقد تعب من أجلنا كثيراً هو وأمي .
جاء اليخت الخاص بي، الذي سوف أسافر به، لم أردْ أن أعود بالطائرة، بل قررتُ أن أسافر في هذا اليخت، كي أتذكر رحلتي الأولى إلى تلك البلاد، وأن أسرق من البحر طعم الذكريات .
أقلبت نحوي زوجتي الإيطالية الثانية، التي أحبتني وساعدتني كثيراً، معها ابني بشعره الأصفر وجهه الأشقر، آه لو يرى وجه جده الأفريقي، الذي أسميته على اسمه، مع أني كنت دائم الاتصال به، إلا أن المكالمات لا تعالج أمواج الحنين الهائجة في بحر قلبي .
بدأ اليخت الفخم في التحرك، كما بدأت ذكرياتي أيضاً تشق طريقها بين تضاريس الماضي الماثلة أمام عيني، وكأن ما يحدث، يحدث من جديد .
تذكرتُ أيام الدراسة، وكيف كافحتُ من أجل أن أواصل تعليمي، ومن أجل ألا يضيع مجهود أبي، فلقد أقسم بالله لو أنني رسبتُ في أي عام من الأعوام، سوف يخرجني من المدرسة لأعطي الفرصة لأخ من أخوتي، فظروفنا المادية لا تسمح بالفشل ولو مرة واحدة، من يومها ولد التحدي في نفسي، فكنتُ من الأوائل دائما، دخلتُ كلية الألسن، وكان يوم تخرجي الذي يفترض أن يكون أفضل يوم في حياتي ينقلب إلى العكس، فلقد توفيت أمي في ذلك اليوم .
كأن القدر يقول لي :
لقد أبقينا لك أمك حتى وصلتَ إلى آخر محطة 
                                              1
لكن أيها القدر ليست هذه آخر محطة بالنسبة لي، إنني ما زلتُ في بداية الطريق .
رد القدر عليّ :
الآن تستطيع الاعتماد على نفسك .
لم يطقْ أبي أن يظل بلا زوجة، فما هي إلا عدة أشهر حتى تزوج، وبدأتْ المشاكل تهبّ في بيتنا بعد أن كان عشاً للهدوء والمحبة، وفي كل مشكلة تطل برأسها، يحار أبي أيرضي من على حساب من ؟ أيرضي زوجته على حسابي ويظلمني ؟! أم يرضيني على حساب زوجته، ويعيش في غم ونكد ؟؟
كنتُ أيام الدراسة أحلم أن أسافر إلى إيطاليا، ولم يغادرني هذا الحلم، بل تضخم هذا الحلم بعد وفاة والدتي، وبعد هطول المنغصات التي تفتعلها زوجة أبي، إذن لا مفرّ من أن أرحل، كي أريح وأستريح .
مما يشجعني أنني أهوى السفر، فكما يقولون في السفر سبع فوائد، مع أنني لا أعرف الفوائد السبع كاملة، إلا أنني قد اكتشفها بنفسي من خلال التجربة العملية أو ربما أضيف لها فوائد جديدة .
يأسرني أن أنطلق في مشاهدة العالم، وأن أنفتح على كافة الثقافات، كما تستهويني أوربا عامة، وإيطاليا خاصة لأنني درستُ اللغة الإيطالية، مما سيسهل لي التواصل مع أهلها، ولكن كيف أمسك بحلمي، فالهجرة الشرعية إلى البلاد الأوربية صعبة، وكل يوم تستفحل صعوبتها، وإن عملتُ في الترجمة عمري كله، فماذا أكون ؟
مرشد سياحي لا أكثر ولا أقل .
هذا ليس حلمي، إن حلمي أكبر وأكبر، ولن أتنازل عن حلمي حتى يكون أو يكون، قررتُ أن أعفي أبي من الحرج، وأن أجمع ما يستلزمه وجه رحلتي من مال من عملي كمرشد، وأن أسافر وأغامر، ماذا سأخسر لو فشلتُ ؟ سأخسر بعض المال، المال يعوض، سأعود، وأعمل كما كنتُ، وأبدأ من الجديد، لكن الفرصة لا تنتظر أحداً، لا بد أن تذهب كي تقتنصها، أو أن تظل في كهف القناعة المريضة حتى تموت على صدرها، فتدفنك تحت أقدامها .  
حاولتُ أثناء عملي كمرشد الحصول على تأشيرة دخول إيطاليا بطريقة شرعية، لكنني وجدتها مرتفعة الثمن جداً، وقد تأتي أو لا تأتي .
لماذا يصنع البشر بينهم وبين بعضهم تلك الحواجز والحدود التي تسمى الدول ؟؟ ثم يطمع هذا فيما عند ذاك، فتولد الحروب، وتمتد أيادي الدمار في كبد المناحي، لماذا لا يكون العالم دولة واحدة ؟؟ ألم يولد الناس جميعاً من أمّ واحدة وأب واحد ؟ فلماذا يتفرق الأخوة ؟!
قابلتني سنية، وهي ذاهبة إلى المدرسة، لم نتحدث كثيراً، خوفاً من القيل والقال، كما أن المكان لم يكن ملائماً للحديث .
تجمعني بها علاقة حب منذ ثلاث سنوات، هي الآن في عامها الأخير من دبلوم التجارة، أي أنني أحببتها منذ كانت طفلة تقريباً !!
نظرتُ من نافذة اليخت، أذهلني ذلك المشهد الطازج، سرب من الأسماك يبدو أنه 
                                           2
مهاجر من مكان إلى مكان آخر .
هذه هي الحرية الحقيقية، لا حدود ولا عوائق، الكل يملك الكل، فالبحر ملك للجميع، لا تأشيرات ولا هجرة غير شرعية، فرغم ما يمتلكه الإنسان من مميزات، إلا أنه قد لا يمتلك ميزة يمتلكها أصغر الكائنات .
بعد أن مضى السرب إلى حيث توجهه بوصلة الفطرة، حطت على شباك ذاكرتي صورة زورقنا المتهالك الذي سافرنا فيه، كانت كثرتنا تكاد تغرق الزورق علي عكس سرب السمك، فكلما كثر السرب كلما شعروا بالأمان في الرحلة .
الريح تصفع زورقنا حيناً، وتداعبه حيناً آخر، وحين يطفو الوجه الذي لا نحبه منها،  يصبح بيننا وبين الموت مسافة إصبع، ثم تتسع المسافة مرة أخرى، وينجو الأمل بيد القدر، ولا ندري ما الذي ينتظرنا، لم أتخيل يوماً أن يكون قبري بطن سمك القرش !!
كان معي في الرحلة من استدان كي يسافر،  ومن باع ذهب زوجته، ومن....،  ومن....، الكل يحلم أن يعوّض ما أنفق من جيب المجهول، أغربهم ذلك الذي باع أرضه كي يلحق بالركب .
ـ أتبيع أرضك كي تسافر ؟!
ـ لم تكن أرضاً أنها عدة قراريط لا تسمن ولا تغني من جوع، أأربط نفسي في حبلها،  ولا أجرب ؟ لقد بعتها كي أكون حراً،  أعمل في أي مكان وأي عمل،  فلا تغادر مخيلتي منظر جارنا بملابسه الرثة،  فلقد سافر إلى فرنسا،  وبعد أن كان معدماً،  أصبح كأنه ابن باشا
ـ يبدو أننا جميعا نحمل نفس الجينات من الأفكار، لست وحدك من تثير العجب،  فكل من في هذا الزورق يثيرون العجب، إنني نفسي أثير العجب،  كيف أترك وظيفتي وحبيبتي ؟! إننا كما فراشة تلقي نفسها للنار، وتظن أن النار ليست ناراً.
رد عليّ ساخراً 
ـ هل تريد أن تنزل ؟ البحر سيتكفل بالنار التي أمسكت بأجنحتك 
ابتسمتُ قائلاً
ـ سوف يفرح بي السمك،  كما فرحتنا عند الوصول للشط 
سافرت معي سنية بوجهها البرئ، وصوتها الرخيم،  لم يغادر كلامها أذني،  ولا وجهها عيني،  كأنها معي،  لم أسافر وحدي رغم تكدس الأميال التي تفصلنا، فطيفها كأنه يتبنى مشاعري، لا أدري كيف ستطيق الحياة بعيداً عني ؟
جاءني ابني بدر في يد أمه، يريدان أن يأخذاني إلى أعلى اليخت،  كي نشاهد البحر ويشاهدنا، ولا يعلمون أنني كنتُ غارق في بحر الذكريات .
قالت زوجتي ونحن في طريقنا إلى أعلى
ـ كم أشتاق أن أرى مصر، وأن أرى الأهرامات
ـ سوف أمتعك يا حبيبتي بكل مكان في مصر
ـ لقد كنتُ أحب مصر قبل أن أحبك، وبعد أن أحببتك زاد حبي لها 
ـ وأنا كنتُ أحب إيطاليا قبل أن أحبك، فارتفع حبها بي بعد أن أحببتك
                                                  3
قاطعنا بدر سائلاً ببراءة:
ـ وأنا ماذا أحب ؟
ضحكتُ وقلتُ لبدر :
ـ تحب مصر وإيطاليا، بل تحب العالم أجمع يا بني، لأن هذا العالم كالجسم، ونحن الدماء التي تسري في هذا الجسم، فلا غنى للجسم عن الدماء، ولا غنى للدماء عن الجسم .
ـ ليت الجميع يفهم العالم كما تفهمه يا زوجي
ـ بل ليت الجميع يكون في جمال روحك
ـ كفاك غزلا يا أبي، وخذ مني هذا السندوتش
أّخذته من بدر، ثم قبّلته 
ـ ما الذي يعجبكما في البحر ؟
ـ إنه واسع جداً يا أبي
ـ الذي يعجبني في البحر أنه يشبه حبي لك
نظرتُ إليها في تقدير ٍ وامتنان ٍ.
ـ أما ما يعجبني في البحر، هو الجميل الذي أهداني إياه، بأن أوصلني لكما .
بعد أن شبعتُ من البحر، تركتُ ابني وزوجتي، ودلفتُ داخل اليخت، كي أكمل إحدى الروايات التاريخية، التي تتحدث عن أيام العرب في الأندلس، وكيف عبر طارق بن زياد وجيوشه مضيق جبل طارق، ودخل أسبانيا .
إن الكاتب يمتلك أسلوباً ساحراً، شدني من أعماقي، رغم أنني أعرف تلك الأحداث، إلا أن تضفيرها في عمل فني، يختلف تماما عما درسناه في التاريخ، لدرجة أن هذا الكاتب أغراني أن أحاول أن أكتب رواية، وأن أضيف للوجود جمالاً وفكراً كما يضيف، ولكن هل يمكن أن أكون كاتباً بعد هذا السن، ربما يكون هذا هو التحدي الجديد الذي أخوضه .
أقرأ الآن في الفصل الأخير من الرواية هو يتحدث عن طرد المسلمين من أسبانيا، ذكرني هذا المشهد بخروجنا من الزورق الذي كان يحملنا من مصر إلى إيطاليا، ورغبة رجال الأمن في طردنا، لو إلى الموت، كأننا جربٌ أو مرض من الأمراض المعدية الفتاكة، سوف يصيب جسم أوروبا !
ما أن لمسنا الشاطئ، وبدأتْ الفرحة تنبت في عيوننا، حتى هرعت خلفنا قوات حرس الشواطئ، ففررنا كما يفرّ الغزال من أسدٍ جائع ٍ .
لقد علمتُ من نشرة الأخبار، أنهم قتلوا البعض  من زملائي في الرحلة، وأمسكوا بالبعض، وسوف يتم ترحيلهم إلى بلادهم، وجاري البحث عن الباقين .
قال لي :
ـ لا تقلق فلقد أصبحتَ في أمان، وسوف أدبر أمرك 
قلتُ  لنفسي
ـ يا ترى أي تدبير ؟ هل يمكن ........؟؟
ـ لا لا ....لا يبدو عليه ...لا لا
                                               4
ـ ولمَ لا ؟
هذا الرجل لم أشاهد رجلا في كرمه، فكثيراً ما قرأتُ عن الكرم العربي، لكنني أول مرة ألمس الكرم الأوربي، يبدو أن الصفات الإنسانية واحدة في أي مكان .
عندما كنتُ أواصل الجري هارباً من الشرطة، دخلتُ إلى منزله، وطلبتُ النجدة، وحكيت له عما حدث، فكان تعليقه الدائم:
ـ لا تقلق لقد أصبحت في أمان، سوف أدبر لك أمرك 
وكان تعليقي الداخليّ
ـ يا ترى أي تدبير ؟ هل يمكن ....؟
أدخلني كي أنام، لمّا لاحظ إرهاقي، لكنني رأيت النوم وحشاً مرعباً 
ـ يمكن أن يتصل بالبوليس و......
ـ لا لا ....لا يبدو عليه
ـ ولم لا
ها قد أشرقت الشمس، الحمد لله لم يأت البوليس، لقد قلتُ لي مراراً
لا يبدو عليه .
 كأنني أملك موهبة في قراءة ما في داخل الإنسان بمجرد النظر، يجب أن أصدق حدسي فيما بعد .
أخذني في الصباح إلى إحدى قرى إيطاليا، لديه هناك مزرعة رائعة، عملتُ فيها، لمس اجتهادي وأمانتي، فزاد حبه لي، وتوثقت الصلة بيني وبينه .
أراد أن أظل معه إلى الأبد، وأن أعاونه في باقي أعماله، وليس المزرعة فقط، ولكي لا أظل مهدداً، زوجني من إحدى الإيطاليات، وكانت هذه زيجتي الأولى، لكنه زواج على الورق فقط، كي أحصل على الجنسية، دفع لها المبلغ المطلوب، وخصمه بأخذ جزء من راتبي الشهري لمدة عامين .
أحبني كابنه، فهو ليس لديه أبناء ذكور،  لديه ابنة واحدة، هي زوجتي الحالية، جميلة وهادئة ومنظمة وصبورة، أنها أروع هدية أهدتني السماء .
كانت في الثالثة عشر عندما هبطت إيطاليا، وبعد عشر سنوات من العمل مع أبيها، تزوجنا، لكنني أظن أنها أحبتني أكثر من أبيها بمراحل، يبدو أن هذه العائلة لا تعرف إلا الحب .
بدأتُ معها رحلتي الخاصة، التي وصلتُ فيها إلى ما وصلتُ في سنوات قليلة، بفضل تشجيعها لي، وحبي للمغامرة، فلكي تكون رجل أعمال ناجح لابد من أن تغامر، قد تصنعك مغامرة .
اقتربنا من الشواطئ المصرية، يا ترى ما حالك يا أبي، هل تذهب للطبيب باستمرار كما كنت تقول لي في المكالمات، سوف أصحبك إلى إيطاليا، كي تواصل علاجك، يا ترى هل التي غرست الأمراض في جسمك هي زوجتك المتسلطة .
تنهدت ثم قلتُ لي :

                                      5

هل بعد هذه السنين، ما زلتَ تكرهها، ألا تستطيع أن تنسى ؟!
كان وزير الاستثمار المصري في استقبالنا، نظراً لما سأقوم به من مشاريع ضخمة، وعندما وضعتُ قدمي على الشاطئ، شعرتُ أنني كنتُ بذراع واحد، والآن أصبحتُ بذراعين، فمددتُ ذراعي الجديد، وسلمت على الوزير، ومضينا.


                                                                  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق