الاثنين، 17 يناير 2011

الخيط الرفيع


الخيط الرفيع




فرح حمداوي. المغرب
الفائزة بجائزة معبر المضيق في دورتها الثالثة، فئة العربية




نفس الشمس تشرق في كلتا الضفتين، ويفصل بينهما بحر عنيد تتلاطم أمواجه الهوجاء ولا ترحم اللاجئين إليه بغير ميعاد مسبق. رائحة الملوحة المختلطة بحركة الأمواج وصلابة الصخور التي تستقر هنا وهناك في غير تناسق أو نظام، وصياح اللقالق البيضاء الجريحة، تشم على بعد مئات الكيلومترات...تشم بمجرد التفكير في أن قاربا جديدا قد غرق للتو...وتلاشى وسط المحيط...وتلاشت معه أحلام الركاب، ونسفت القصور التي أمضوا عمرهم يشيدونها في مخيلاتهم، ويسقونها كل يوم من جنونهم الآدمي اللذيذ.






طرفة عين تفصل بين التحدي والإستسلام، بين الحلم والكابوس، بين الأمل والخيبة، بين السعادة و الشقاء، وأخيرا ودون شك بين الحياة والموت.



" هؤلاء المغامرون...كم هي عقولهم صغيرة !! "  فكر علي للحظات بينما كان يصغي لموجز الأخبار،  ثم بحركة واحدة  ـ إن لم أبالغ ـ كان قد قفز من على الكرسي ونزل الدرج .كان متلهفا لرؤية ما يحمله له ساعي البريد من رسائل. لقد كانت شهيته اليوم مفتوحة على غير العادة...ربما لأن المرء حينما يسمع أخبارا كئيبة تنتابه رغبة في التهام العالم كله لقمة واحدة من شدة الحسرة ...أو الإنهزام.





أسمع كثيرا عن أن المرء يبدو أكثر شراسة في اللحظة التي تسبق سقوطه مباشرة...ربما هي خطة تمويهية لبث الرعب في نفوس الأعداء. وفي اللحظة التي سبقت فتحه للباب مباشرة سمع جارته سماح تطلق شهقة عالية...لم يدر سببها...لكنها كانت قد تعودت على إطلاق صيحات مشابهة في الآونة الأخيرة. آخرها كانت حينما وصلها جواب من ابنها ناجي، يخبرها فيه بأنه قد حصل على الجنسية الإسبانية وأصبحت لديه سيارة فخمة، وزوجة شقراء رائعة الجمال، وعمل مستقر مدر للدخل ولا ينقصه غير رؤية وجههم الكريم ـ كل هذا دفعة واحدة، ولربما كان معظمه كذباـ



- كم هي متفشخرة هذه السماح...فلتدخل بيتها ولتقفل الباب !! أم أنها قد أدمنت قراءة الرسائل أمام عتبة الباب لذر الرماد في عيون الحساد ؟



ترك الباب مواربا كي يتخلص من نظراتها المتعالية، و صفر لساعي البريد الذي اقترب منه وأخبره أن لا رسائل له في جعبته. كانت هذه رابع مرة يشارك في مسابقة الجبنة العفنة التي يعلنون عنها في التلفاز دون أن يتحقق حلمه ويكسب العشرة آلاف درهم. تمتم علي ببضعة شتائم خادشة للحياء ثم أحكم إقفال الباب.





ناجي...إسمه ناجي عبد السلام، وربما بسبب اسمه فقط قد كتبت له النجاة...هكذا فكر علي. ثم انتابته نوبة ضحك هستيري حينما تذكر أبناء سميحة السبعة الذين كانوا لقمة سائغة للبحر واحدا تلو الآخر.ربما لو سمت تلك المسكينة أحدهم بناجي لما هلك كبقية القطيع.



نعم...قطيع...علي يسمي كل من يقدم على رحلة الموت تلك بأحد أفراد القطيع. والسبب نراه جليا في عينيه الآخذتين في الذبول، المصممتين على التشبث بالحياة حتى الرمق الأخير.


معظم الشباب المغربي يحتفظ بنفس الأفكار داخل مخه البئيس، السفر لأوروبا لتحقيق ذاته...بصيغة أخرى: أحب بلدي لكنني مضطر للسفر كي أحسن مستواي المعيشي...وبصيغة أكثر تهذيبا: أريد أن أرتاح من الهم الذي أراه هنا !



علي الطاهر، شاب في الثالثة والعشرين من عمره، بيد أنه يبدو أكبر من ذلك بكثير.ممشوق القامة، جاحظ العينين، حليق الرأس، يمتلك نهما شديدا للقراءة يغذيه بين الفينة و الأخرى باستعارة بعض الكتب و الروايات من أصدقاءه. فقد والده حينما كان في الخامسة عشرة من عمره ويعيش مع أمه وإخوته التسعة...ثمان بنات وولد صغير متعفرت يدعى يامن.



في شقة صغيرة يعيشون كلهم، متكدسين كأنهم في علبة سردين. أخته الثانية تزوجت منذ سنتين، ثم سرعان ما طلقت وعادت ومعها ولدان.الأمور تتعقد، والأفق يضيق و صاحب البيت لا يرحم...وكل مرة يزيد من الإيجار...لكن عليا وإخوته يعملون بحماسة منقطعة النظير لتوفير حاجيات يومهم.







علي يعمل إسكافيا، يجر عربته كل صباح في الأزقة، يصلح الأحذية ويمسحها أيضا .بينما ثلاث من أخواته يعملن في تنظيف البيوت. كانت أمه سيدة قد نال منها الوهن، ضحية أخرى من ضحايا الفشل الكلوي، تذهب مرتين في الأسبوع إلى المستشفى لإجراء عملية الغسيل الكلوي التي تكلفها الكثير.


فشل  علي ثلاث مرات متتالية في اجتياز مرحلة الباكالوريا الأولى، ليس لنفوره من التعليم ولكن لضيق ذات اليد. استسلم أخيرا وهو يمني النفس بأن يصبح تاجرا غنيا.



" التجارة شطارة، تستطيع أن تجعلك تقفز من الفقر المدقع إلى الغنى الفاحش...فقط لو كنت ذكيا، يقظا، وعلى دراية بما يدور حولك ...ولهذا اخترت هذا المجال " كانت هذه الجملة من العم مسعود صاحب محل الملابس.



" ولكن لا يبدو عليه الغنى هذا الرجل " فكر علي للحظات قبل أن يستكمل:  "ربما لأن آخر ثلاثة شروط لم تكتمل فيه ".


الحياة صعبة ولا بد من الصبر والمثابرة...الدرهم سيصبح عشرة...والعشرة مائة...و المائة ألف...لكن كيف؟
كان قد قرأ في إحدى روايات الأديب البرازيلي باولو كوهيلو جملة لم تغب عن باله قط. كانت الجملة تقول : في هذا العالم توجد حقيقة كبيرة، أيا تكن ومهما تفعل فإنك حينما ترغب حقا في شيء ما فإن هذه الرغبة تولد في روح الكون.



قرأ أيضا عن أن روح الكون تتغذى على سعادة الناس أو شقائهم، وأنك ولا شك ماض في طريق من اثنين لا ثالت لهما، إما أنك تقترب من أحلامك أو تبتعد عنها...إما أن تصل لتحقيق أسطورتك الشخصية وإما أن تظل تلك الأسطورة حبيسة رأسك إلى الأبد...تعذبك...تمتص من دمك...تذكرك أنك إنسان فاشل ومستسلم ومنهزم.





يستطيع علي أن يغدو كسنتياغو بطل الرواية، يقطع البحار ليحقق  أحلامه وراءها...يعمل بجد ونشاط إلى أن يصبح غنيا فيرجع إلى المغرب رافعا رأسه.لكن أفكاره الثورية كانت تمنعه عن ذلك. لماذا الهروب من الوطن؟ لماذا نرضى بظلم غيرنا لنا؟ لماذا نسكت عن الحق؟ لماذا لا نصرخ في وجه كل من وصل القمة عن طريق الوساطة؟ لماذا يزداد الفقير فقرا والغني غنى؟ لماذا نترك بلداننا للطغاة يرتعون فيها كما يشاؤون؟




الفقر والجهل والفساد، أو ما يسميه علي بالثالوث القاصم، هو ما يجعل المغاربة يلجؤون للهرب بحثا عن حياة أخرى...بحثا عن حياة حقيقية.



كلما رأى علي أحد زملائه القدامى من الذين عبروا البحر بطريقة غير شرعية أحس بغصة في حلقه.هؤلاء ذهبوا وها هم يعودون كل سنة كي يضرموا النار في روحه...روحه التي باتت كخرقة بالية ممزقة...شاب يملك كل شيء ولا يقوى على امتلاك شيء...يملك الذكاء والصبر والقوة البدنية ولديه من الشجاعة ما يجعله مستعدا لرمي نفسه في قدر ماء مغلي إن كان ذلك سيجعل حياة أهله تتغير للأحسن.ولكنه لا يجد إلى الحياة التي يشتهيها سبيلا..





تعود نيران الحقد لتضطرم مجددا بداخله حينما يرى جاره محسن يستعرض سيارته الجديدة أمام كل من في الحي...في تلك الأثناء لا ينقص سوى سماع الموسيقى التصويرية لسلسلة الفهد الوردي حتى تكتمل الصورة...قمة السخف...إنه يكرهه ككرهه للطاعون أو أشد...خاصة حينما علم أن كل بنات الحي تخفق قلوبهم لمرآه...ولمرأى كل من وصل إلى بلاد الشقر.




اليوم جاء رجل ادعى أنه كان يعرف والد علي، وأن هذا الأخير ـ أي والد علي ـ كان قد استلف منه سبعة آلاف درهم لكنه لم يردها. انتفض علي واتهم الرجل بالكذب، لكنه سرعان ما أقفل فاه حينما رأى أمامه أوراقا تثبت ذلك. الحياة مجموعة من الإختيارات، وقد كان أمام علي اثنين منهما : إما أن يدفع المبلغ خلال ثلاثة أيام وإما أن يسجن. مبلغ كهذا طبعا لن يجده أمام عتبة الباب مثلا...حتى في أشد أحلامه كرما.


في اليوم التالي وجد أمه تعطيه شيئا ملفوفا بثوب خشن، نظر فإذا به ذهبها...حلق وعقد وبعض أساور.دمعت عيناه...أراد أن يقول لها ": لا يا أمي...لن أبيع ذهبك". 






لكنه لم يستطع...لأنه يدرك تماما أن لا حل غير ذلك.



لك الله يا علي ! الدنيا تضيق من حولك فعلا...فماذا أنت فاعل؟



يومها وبعد أن باع الذهب ورد المال لصاحبه خجل من أن يعود إلى بيته...خجل أن ينظر إلى وجه أمه...ماذا سيقول لها؟ ...أنا آسف لأنني لم أكن كما يجب أن أكون ؟ أنا آسف لأنني بالكاد أكسب خمسين درهما في اليوم ؟





لا يا علي...يبدو أن ما كنت تهرب منه دائما يقترب منك بالفعل، بل قد بات أقرب إليك من ظلك...و أخشى أنك ستستسلم يا علي...أخشى ذلك.



بعد جهد جهيد ومعركة ضارية بين رغبته في البقاء في وطنه ورغبته في السفر ـ التي طالما أنكرها ـ عاد أخيرا إلى بيته نحو الساعة الثانية ليلا...كان يتخيل وقع خطوات خلفه، وخيل إليه للحظة أنه الموت يقترب منه.



كان أول ما فعله أن استلقى على فراشه الرث البالي وأكمل تفكيره الذي صار ضروريا في ظروف كهذه.تذكر كلام أناس كثر عبروا المضيق ووصلوا إلى الضفة الأخرى. ولكل منهم قصة لها أول و ليس لها آخر.



منهم من ركب قاربا من قوارب الموت مع عشرات البشر من المغلوب على أمرهم، كان مصير أغلبهم الغرق. ومنهم من استعار جواز سفر بتأشيرة من شخص آخرـ لا يقل عنه حمقا ـ وركب الباخرة و لحسن حظه لم يفتضح أمره...ربما للشبه الكبير بين الشخصين، وربما لقصر نظر بعض أفراد الشرطة واستعجالهم، وربما ـ و هذا ما يسميه البعض شطارة ـ لأن بعض الدراهم قد دست في أياد كثيرة.


قرر علي أن لا يفكر في الرحلة نفسها، بل أن يسمو بفكره بعيدا، إلا ما بعد الرحلة...إلى بلاد الأندلس.



يقولون أنها بلد نظام واحترام، وأن كل شيء فيها يبث في النفس السرور، وأنك إن كنت رجلا حقا فستحقق ذاتك ولا شك. يقولون أيضا أن تلك الأراضي تغطيها الثلوج على الدوام وأن للحيوانات فيها حقوقا. وكثيرا ما سمع علي عن ما تركه أجداده العرب هناك، من قصور ومساجد ومعالم أثرية...إن الأندلس أوروبا بنكهة عربية.


فكر علي في أن بين المغرب وإسبانيا خيطا رفيعا يصل بينهما...قد تختلف الأفكار...قد تختلف الأديان...قد يختلف المناخ...لكن شيئا ما عصي على الكسر يربط بينهما حقا.
هو الآن  ولا شك في الطرف الأول من الخيط، وكل ما ينقصه هو الزحلقة بهدوء نحو الطرف الثاني...تبدو الأمور سهلة بالكلام.
مرت الأيام سريعا...كان علي قد عدل جل أموره استعدادا للسفر ـ هو شر لا بد منه في النهايةـ و حانت اللحظة الحاسمة...أخبر علي أهله بأن أحد أصدقائه ـ ويدعى عبد الرحمن ـ ممن سووا أوضاعهم بالخارج قد وافڨ على مساعدته في عبور المضيق. كان قد اتفق وإياه على أن يخبئه في الجزء الأمامي من سيارته...حيث يوجد المحرك.بعد ذلك سيدخل سيارته إلى  مرآب الباخرة.لن يحس به أحد، فقط عليه أن يتحمل حرارة المكان قليلا...أفهمه أنه خلال تلك اللحظات لن يستطيع أن يتنفس بسهولة، ولن يستطيع أن يأكل إن جاع، ولن يستطيع أن يتحرك بحرية ولا أن يفتح عينيه أو يدندن بإحدى أغانيه المفضلة، فيما عدى ذلك يستطيع القيام بأي شيء تشتهيه    نفسه.



ما باليد حيلة، يجب عليه أن يتحمل كل ذلك، فهو أولا وأخيرا لم يدفع فلسا واحدا لقاء ذلك، عكس من يبيعون ما عندهم وما عند غيرهم كي يموتوا غرقا في النهاية.ثم إن عبد الرحمن إنسان صالح، سيساعده لوجه الله الكريم ولا يريد منه جزاءا و لا شكورا...هكذا أخبره.





وجاءت لحظة الوداع التي كان يخشاها...اختلطت الدموع بتلاحق الأنفاس بعبارات الألم تارة والدعاء تارة أخرى. شريط طويل كان يمر أمام عينيه...وكان في أذنه صوت يهمس : إنها بداية الحياة الحقيقية يا علي...ستعبر إلى الضفة الأخرى ...إن لم ينقطع الخيط.




كان يعلم أن الباخرة تحتاج ساعتين كي تعبر البحر من طنجة إلى الجزيرة الخضراء.



عندما استعد للاختباء اكتشف أن المكان ضيق للغاية...أضيق مما كان يظن...وكانت رائحة البنزين مقززة للغاية...لكنه سيتحمل كل ذلك...وأكثر من ذلك...سيتحمل كل أصناف العذاب من أجل الوصول إلى بر الأمان في النهاية...إنما الأمور بالخواتيم.



دخلت سيارة عبد الرحمن مرآب الباخرة في أمان الله.كان المكان يعج بالركاب...سياح و مغتربون و باحثون عن الرزق و تائهون بلا عنوان...فتح عبد الرحمن غطاء المحرك و تظاهر بأنه يصب بعض الماء في الرادياتور. كان وجه علي قد شحب وعلاه السواد.
ـ كم مر من الوقت؟
ـ نصف ساعة يا علي...إصمد قليلا...بعد ساعتين سنصل الجزيرة الخضراء وتكون الأمور على خير ما يرام.
ـ يا الله ...ساعتين كاملتين !! يا صبر أيوب...يا صبر أيوب !!



ـ لا تخف يا علي...كن شجاعا ! لقد فعلها أناس كثر قبلك ولم يصبهم مكروه...وهم ينعمون اليوم بحياة مترفة.


ـ سأصل بإذن الله...إن...إن لم ينقطع الخيط.


لم يفهم عبد الرحمن قصده، لكنه أعاد الغطاء كما كان فعم الظلام ثانية.




مرت الساعتان...الأسوأ والأبشع والأكثر قسوة ومرارة وقرفا في حياة علي...وفتحت أبواب المرآب و دخل كل من يملك سيارة لإستعادتها.



فجأة شغل محرك السيارة...وبعدها بدقائق معدودة...كأن شيئا ما ليس على ما يرام بداخلها...كأن عليا يحس بأن حرارة المكان ارتفعت أكثر من اللازم...كأن جسده ارتخى فجأة...كأنه يشم رائحة لحم يحترق...كأن ثنائي أوكسيد الكربون قد غزا رئتيه...كأن الموت غرقا أرحم...كأن...



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق